recent
أخبار ساخنة

مقال فلسفي حول الدال والمدلول خاص بطلبة البكالوريا

مقال فلسفي حول الدال والمدلول خاص بطلبة البكالوريا

طرح المشكلة:

إن الإنسان كائن إجتماعي بطبعه فهو يؤثر ويتأثر بمن حوله وهذا لا يكون إلا باللغة التي هي من الصفات الملازمة والضرورية للإنسان، بل إنها تمثل ماهية الإنسان وحقيقته وبفضلها يتواصل مع العالم الخارجي ويحقق حاجياته الضرورية، لهذا فهي تراث إجتماعي وثقافي يتغير عبر التاريخ، وبما أن اللغة هي مجموعة من الإشارات والرموز التي تستخدم كوسيلة للتواصل، والشائع أننا غالبا ما نستعمل لغة الألفاظ والكلمات للتعبير عن الأشياء والمعاني.

والأمر الذي حرك الدراسات في مجال علم اللغة هو طبيعة العلاقة بينهما أي بين اللفظ ومعناه بمعنى "الدال والمدلول" فالدال هو الكلمة أو الصورة السمعية، أما المدلول فهو المعنى أو الصورة الذهنية، إذ ذهب البعض مثل أصحاب الموقف التقليدي إلى القول بأن العلاقة بين اللفظ ومعناه هي علاقة طبيعية ضرورية، بينما يؤكد أنصار نظرية التواضع والإصطلاح أن الأسماء الواردة في الكلام الإنساني ترجع إلى المواضعة والإتفاق عليها وهي إعتباطية، إذن هل العلاقة بين اللفظ ومعناه هي رابطة ضرورية منبعها محاكاة الطبيعة؟ أم أنها إصطلاحية توافقية؟

محاولة حل المشكلة:

الموقف الأول: يرى بعض العلماء والفلاسفة أن هناك علاقة تطابق بين الكلمات ومعانيها، إذ يكفي سماع الكلمة لمعرفة معناها، إذ أن هنالك ترابطا وثيقا ومحكما بين الكلمة ومعناها وهذا الترابط ليس خيارا أو مجازا بل هو ضروري، إذ يؤكد أفلاطون أن العلاقة بين اللفظ ومعناه ضرورية تحاكي فيها الكلمات أصوات الطبيعة، أي أن علاقة الكلمة بالشيء علاقة طبيعية والكلمات هي أدوات تسمى بها الأشياء فبمجرد سماع الكلمة نعرف معناها ودلالتها، فكلمة زقزقة مثلا تشير بالضرورة إلى صوت العصفور، وكلمة مواء تشير بالضرورة إلى صوت القط، ونفس الشأن مع كلمات أخرى كنهيق، نقيق، حفيف ... الخ.

لذا يقول أفلاطون: "إن الطبيعة هي التي أضفت على الأسماء معنى خاصا، ويقول أيضا: "يوجد بالطبيعة إسم صحيح لكل كائن في الحياة، إذ الكلمة ليست تسمية يطلقها البعض على الشيء بالتواطؤ، لكن ثمة بالطبيعة لليونانيين والبرابرة طريقة صحيحة للتدليل على الأشياء هي ذاتها عند جميع الناس"، ويؤكد بعض علماء اللغة أن بعض الحروف لها معان فطرية خاصة، حيث يوحي لك إيقاع الصوت وجرس الكلمة بمعنى خاص، فحرف (ح) مثلا يدل على معاني الانبساط والراحة، مثال: حب، حنان، حنين، حياة ... وحرف (غ) مثلا يدل على معاني الظلمة والحزن والإختفاء، كما في غيم، غم، غدر، غبن، غرق، غاص ...إلخ. 

ولو تأملنا قصائد الغزل كما يقول بعض علماء اللغة لوجدنا أنها لا تلائم في قافيتها حرف القاف نظرا لغلظة هذا الحرف وخشونته، لذلك يستحسن في هذه القصائد أن تكون القافية (س) أو (ح) نظرا لرقتها؛ ويؤكد أيميل بنفست أن اللفظ دائما يطابق ما يدل عليه في العالم الخارجي وأساس هذه المطابقة محاكاة الإنسان الأصوات الطبيعة يقول بينفنست: "أحد مكونات العلامة اللسانية هي الصورة الصوتية ويشكل الدال والأخر هو الصورة الذهنية ويشكل المدلول، إن العلاقة والمدلول ليست إعتباطية بل هي على عکس ذلك ضرورية ".

• النقد: لو كانت اللغة محاكاة للطبيعة فكيف نفسر تعدد اللغات ما دمنا نعيش في طبيعة واحدة؟ بل كيف نفسر تعدد الألفاظ للمعنى الواحد مثال (مريض، سقيم، عليل)، فاللغة إبداع إنساني وليست مجرد تقليد، وبالتالي رأي أفلاطون لا يمكن الأخذ به والقياس عليه لأن عدد الكلمات المستوحاة من الطبيعة قليل جدا مقارنة بالكلمات القائمة على الإصطلاح والتوافق، وبالتالي فهي حالات لا يقاس عليها.

• الموقف الثاني: يرى أنصار الإتجاه الإعتباطي أن العلاقة بين الدال والمدلول تعسفية إصطلاحية وهي من صنع الإنسان، أنه ليس هنالك ترابط وثيق يجمع بين الدال والمدلول ومنه فالعلاقة بين الدال والمدلول علاقة إعتباطية تعسفية إصطلاحية والكلمات لا تحمل أي معنى في ذاتها، لأنها تمت نتيجة الاتفاق.

والتواضع بين أفراد المجتمع فقط ويؤكد أرنست كاسيرر هذا بقوله: "إن الأسماء الواردة في الكلام الإنساني لم توضع لتشير إلى أشياء بذاتها بل على معان مجردة "؛ ويدل على ذلك أن الألفاظ وضعت لتدل على معان مجردة وأفكار لا يمكن إيجادها في الواقع المادي، بل إن الكلمة أو الرمز أو الإشارة لا تحمل في ذاتها أي معنى أو مضمون إلا إذا إتفق عليه أفراد المجتمع، فالإنسان هو من وضع الألفاظ قصد التعبير والتواصل. 

فمثلا يمكن أن نعبر عن المعنى الواحد بلغات مختلفة وبتتابع أصوات أخرى فمثلا كلمة "تلميذ - lélève - student" تبين إختلاف الأصوات من لغة إلى أخرى بل إنه تم إقتراحها دون مبرر وهذا يعني أنه لا علاقة ضرورية بين الدال والمدلول حيث يقول جون بياجية: "إن تعدد اللغات نفسه يؤكد بديهيا الميزة الإصطلاحية للإشارة اللفظية". 

ويقول كاسيرر: "بقدر ما يتقدم النشاط الرمزي بقدر ما يتراجع الواقع المادي" أي أن ما يبتكره الإنسان من ألفاظ ورموز لا علاقة له بالطبيعة أو بالواقع المادي وأن العلاقة الموجودة بين الدال والمدلول هي علاقة إعتباطية عرضية، كذلك أن الدلالة اللسانية تجمع بين الشيء واللفظ تحكميا أي بين الدال والمدلول إعتباطيا، فاللغة إذن هي تعبير عن الواقع كما يدركه الفكر وهو نفس ما قصده عالم اللسانيات السويسري دوسوسير حينما قال: "إن الرابطة الجامعة بين الدال والمدلول رابطة تحكمية"، وأيضا كثيرا ما نجد الكلمة الواحدة تحمل دلالات مختلفة، فأين الضرورة إذن بين اللفظ والمعنى؟ 

فالفعل ضرب مثلا له ثلاث دلالات: فإذا قلنا ضرب إسماعيل في الأرض، معنى هذا أنه سافر، وإذا قلنا ضرب إسماعيل مثالا، معنى هذا أنه قدم مثالا، وإذا قلنا ضرب الأب ابنه العاق، معناه عاقبه بالضرب، وعليه نجد اللفظ الواحد له عدة معان، فلو كانت الطبيعة هي التي تفرض نفسها في وضع الأسماء لكانت لغة البشر واحدة بل الواقع يثبت العكس. 

ويقول دولاكروا: "اللغة هي جملة من الإصطلاحات تتبناها هيئة إجتماعية ما تنظم بواسطتها عملية التخاطب بين أفرادها"، ويقول أيضا "إن الجماعة هي التي تعطي للإشارة اللغوية دلالتها وفي هذه الدلالة يلتقي الأفراد" أي أن اللغة مجرد إبداع إنساني والأسماء اختراع بشري.

• النقد: يبدو في هذا الطرح نوع من الموضوعية، فكلمة حرية، عدالة مثلا ليس لها ما يطابقها في الواقع المادي لذا وجب اللجوء إلى الإتفاق والإصطلاح لكن هذا لا ينفي وجود البعض من الرموز والألفاظ التي تحاكي الطبيعة، فالقول بالعلاقة الإعتباطية لا تعني أن الإنسان له مطلق الحرية في وضع العلامات، والإشارات وإستعمالها حسب هواه، بل يجب عليه التقيد بالاستعمال الإجتماعي، كما أن الواقع أيضا يؤكد وجود تناسب طبيعي بين الأشياء والأسماء في بعض الأحيان.

• التركيب: يمكن القول مما سبق أن العلاقة التي تربط الدال بالمدلول كانت ضرورية لأن الإنسان كان يقلد الطبيعة ولكنها إنتهت إعتباطية، وأصبحت اللغة من بناء المجتمع أي أن العلاقة التي تربط بين الدال والمدلول تعسفية تحكمية وأنه يمكن القول بعدم وجود ضرورة بين الإشارة اللفظية والمشار إليه، بمعنى أنه لا توجد علاقة ضرورية بين الأسماء والمسميات. 

فمثلا: ما ندعوه قلما كان بالإمكان أن ندعوه كرسي أو شيء آخر لهذا فالرأي الذي يبدو لي صحيحا في هذه المسألة أن العلاقة الدال والمدلول هي علاقة إعتباطية غير ضرورية ترجع إلى مجرد الاتفاق والمواضعة، حيث يقول إبن جني: "إن أصل اللغة لا بد فيه من المواضعة... كأن يجتمع حكيمان أو ثلاثة فصاعدا فيحتاجوا إلى الإبانة عن الأشياء والمعلومات فيضعوا لكل واحد منها سمة "رمزا" و "لفظا" وهذا هو سر إبداع اللغة.

• حل المشكلة: عصارة القول إن العلاقة بين الدال والمدلول علاقة ضرورية من حيث الممارسة فقط وإعتباطية من حيث المبدأ لأن الدراسات في مجال علم اللغة تؤكد أن الطبيعة عاجزة أن تستوعب كل الألفاظ لذا كان لابد من التوافق والإصطلاح؛ يقول بياجيه: "إن الرمز" عبارة عن إصطلاح صريح أو ضمني يرجع سببه للإستعمال".






.
منقول من صفحة الأستاذ خليل سعيداني.
google-playkhamsatmostaqltradent