تحليل السياسة العامة بإختصار هي عملية دراسة وتقييم القرارات والسياسات الحكومية وتأثيراتها على المجتمع والإقتصاد والبيئة والدولة ككل؛ وتمر عذه العملية بمجموعة من المراحل المتمثلة في:
مراحل تحليل السياسات العامة:
تعددت إجتهادات المفكرين في وضع خطوات منهجية يتبعها محلل السياسات العامة حسب إتجاهاته الفكرية والمدرسة التي ينتمي إليها، ولأننا لن نورد كل هذه الإتجاهات فإننا سنحاول تحديد أهم مراحل تحليل السياسات العامة كالآتي:
1. تحديد وتصور المشكلة:
تعتبر عملية تحديد المشكلة أول عملية في التحليل، وفي هذا الإطار لابد من التعرف على المشكلة أولا، ثم تشخيصها ودراستها للكشف على الحلول والبدائل اللازمة لحلها.
• تعريف المشكلة: المشكلة إصطلاحا هي إنحرافات عما هو محدد مسبقا، أو الفرق بين ما يحدث فعلا وما يجب أن يكون، أو مجموعة من الصعوبات تمنع الوصول إلى هدف معين، فالمشكلة عادة ترتبط بقضية أو موقف أو حالة معينة أو حاجات مطلوبة أو فرص غير مدركة، وتمثل بالتالي ظاهرة محددة لها أعراضها وآثارها المباشرة وغير المباشرة، وهي قابلة للحل في إطار المقومات البيئية.
• تصنيف المشكلة: يتم تصنيف المشاكل أو القضايا المجتمعية وفقا لدرجة تأثيرها (عامة أو إستثنائية) أو نوعيتها (سياسية، إقتصادية، إجتماعية...)، وحتى الظرف الزمني الذي برزت أو يتوقع بروزها فيه.
• الإحساس والشعور بالمشكلة: وهو أمر ضروري وهام وجوهري وأساسي في عملية تحديد المشكلة وحلها، ويمكن لمحلل السياسات أن يحس ويشعر بالمشكلة إذا كان يملك القدرة الكافية والكاملة والشاملة لما هو كائن ولما يجب أن يكون.
• ظهور المشكلة وإدراكها: التعرف على المشكلة يتم إما بحدوث وظهور المشكلة بصورة مباشرة وواضحة ومؤكدة أمام متخذ القرار أو صانع السياسة فيلجأ إلى مواجهتها بشكل مباشر، وإما بإكتشاف المشكلة والتعرف عليها من خلال تحسس ودراسة الظواهر والوقائع والحقائق والمؤشرات، وقد يتم إكتشاف المشكلة بواسطة وسائل الإستخبارات والتبليغ أو بواسطة التغذية العكسية أو قياس الرضا العام للمواطنين.
ولأجل التعرف الجيد على المشكلة من حيث كونها مثيرة للإهتمام، لابد وأن تكون متضمنة للحاجات التي بدورها تدفع الناس للتحرك والعمل والمطالبة، وتغدو ذات منحى سياسي وأن تكون متضمنة للبعد العام وليس للبعد الفردي الخاص، وأن يكون لها تأثير يتعدى من حيث التأثيرات والنتائج حدود الأشخاص المباشرين المعنيين بها كمشكلة.
2. تشخيص المشكلة: يتم تشخيص المشكلة من خلال توصيفها أولا عن طريق أسبابها ومكانها وحدودها وحجمها ووقتها، بعدها يتم القيام بدراسة وتحليل وتفسير هذه المشكلة من خلال وضع تصورات وآفاق علاج مناسبة لها، وحتى يتم فهم وتمييز مشاكل السياسات العامة عن سواها من المشاكل، فإنها يجب أن تتميز بما يلي:
- التبادلية: بمعنى أن مشاكل السياسات العامة تؤثر وتتأثر ببعضها، لأنها متشابكة وذات أجزاء مترابطة من نظام متكامل.
- الذاتية: المقصود من ذلك هو أن تصنيف مشاكل السياسات العامة وتشخيصها يتم وفق الخبرات الذاتية أو الشخصية للقائمين بتحليل وصياغة هذه السياسات.
- الوضعية: أي أن مشاكل السياسات العامة في الغالب تكون من صنع الأفرد، وبالتالي فهي توجد أينما وجدت التجمعات البشرية.
- الديناميكية: ويقصد بها أن لمشاكل السياسات العامة حلولا بقدر التعاريف المحتملة لها.
تعد هذه الخطوات المتسلسلة ركيزة هامة لمحلل السياسات العامة خلال معالجته للمشكلة، لأن التشخيص الدقيق والسليم لأسباب المشكلة وأعراضها وعلاقاتها وكل ما يتصل بها، يعد خطوة جوهرية في التعرف على حقيقتها، فالتحديد غير الدقيق للمشكلة قد يؤدي على حل سطحي ومؤقت لها مما يبقيها قائمة، لذلك يجب التركيز الجيد والدقيق في هذه المرحلة.
2. جمع المعلومات الخاصة بالمشكلة:
المعلومات هي بمثابة العمود الفقري لكل مراحل تحليل السياسات العامة، فهي القدرة على زيادة المعرفة بطبيعة المشكلة، وتعد الركيزة الأساسية لكافة مراحل الإستدلال والإستنتاج والتحليل والتقييم وإختيار البديل الأفضل.
لذلك فإن عملية صياغة سياسات عامة جديدة تعالج مشكلة ما تعتمد بشكل رئيسي على طبيعة المعلومات من حيث الكم والنوع والمصدر العلمي، ولكي تتحقق الإفادة الكاملة من المعلومات فلا بد أن تتوافر فيها الخصائص التالية:
- الدقة والموضوعية: وتعني الإبتعاد الكلي عن الذاتية والتحيز.
- الشمول: يعني ضرورة توافر كل المعلومات المتصلة بطبيعة المشكلة والعناصر المؤثرة والمتأثرة بها.
- الملائمة: بمعنى أن تكون المعلومات ذات دلالة وأثر في تحديد أبعاد المشكلة، أو تحديد أفضلية البدائل الممكنة لحلها.
ولجمع المعلومات هناك عدة أساليب منها: الملاحظة والإستقصاء، والإستبيان، وإستخدام الوسائل الإحصائية، وتحليل التغذية العكسية.
3. إكتشاف البدائل الممكنة:
تتطلب هذه المرحلة درجة عالية من الفهم والتصور والخيال والمرونة في إستقراء المعلومات وإستكشاف كل البدائل الممكنة لحل المشكلة، وبالتالي يجب على محلل السياسة رصد كافة البدائل القابلة للتنفيذ مع تحديد تكلفة وعائد كل منه.
وهو أمر متوقف على قدرته على إيجاد البدائل المتعددة كبديل الإبقاء على الوضع الراهن أو بديل عدم التدخل في مجريات الأحداث، بما يعزز من إحتواء الموقف لضمان عدم معارضة الحلول المتوصل إليها بالمستقبل، وبما يبعد الآثار الجانبية التي تعيق التوصل إلى الحل السليم للمشكلة.
مما يستوجب على لمعرفة مصادر كل بديل، من خلال طرق المحلل العودة إلى التحري الإستبصار بالأشياء، وطرق البحث العلمي، وتوظيف النظريات العلمية وبحوث السلطة والقوة والقيم، والمنظومة الأخالقية القائمة في المجتمع محل الدراسة والإهتمام.
هذه المرحلة تحتاج من محلل السياسات أن يختار الأساليب المناسبة التي تؤمن الدقة في تحليل البدائل وتحديد نتائجها ومن أهم هذه الأساليب: أسلوب الحدس، أسلوب دلفي، أسلوب بناء السيناريو، وبحوث العمليات، وأسلوب النماذج الرياضية.
4. تحديد وإختيار البديل الأفضل:
البديل الأفضل هو البديل الذي يتضمن القيم القصوى (أكثر البدائل نجاعة في حل المشكلة)، مع إمكانية تطبيقه وفق الطاقات والإمكانات المادية والفنية المتوافرة، ووفق الظروف البيئية ومستوجبات الزمان.
ومن أهم المعايير في المفاضلة بين البدائل نجد تكلفة البديل المترتبة عنه حينما يتم تنفيذه، وقدرة البديل على إستغلال الموارد المتاحة، ونوعية المعالجة (كلية أو جزئية) التي يقدمها إزاء المشكلة، ومدى إنسجام البديل مع أهداف السياسة العامة، ومدى السرعة والتوقيت المطلوب في تحقيق الحل ونتائجه، وكذلك درجة المخاطرة المتوقعة عن البديل في حالة عدم تحقيقه للهدف المرجو منه.
خلال هذه المرحلة يستخدم محلل السياسة العامة عدة وسائل ونظريات وأساليب للمساعدة على إختيار البديل الأفضل لحل المشكلات أهمها: نظرية المباراة، شجرة القرارات، نظرية الإحتمالات، وغيرها.
5. إختبار البديل المختار:
يتوجب على محلل السياسات العامة خلال هذه المرحلة أن يخضع البديل إلى الإختبار التجريبي، للتأكد من سلامة الإختيار وضمان جدوى نتائجه وإنعكاساته التأثيرية، تمهيدا لإعتماده في المستقبل ضمن الواقع الميداني العملي للسياسة العامة في حلها للمشكلة المعنية.
وهنا لابد أن يأخذ محلل السياسات في الحسبان مدى توافر أسس الكفاءة والفعالية والعدالة والمساواة، كما يجب عليه أن يكون ملما إلماما كافيا ودقيقا بالأهداف الجوهرية التي تشكل محصلة إيجابية مترابطة فيما بينها لجهود المحلل.
6. تنفيذ البديل:
ميزة المراحل السابقة أنها تتم ضمن سياقات وإجراءات غير معلنة، بفعل الطابع التخصصي والتقني والإستشاري لمهام محللي السياسات العامة، لكن تنفيذ البديل كخطوة تختلف عن سابقتها، لأنها تكتسي الطابع المرضي لجميع الأطراف المعنيين بالقرار بوصفها الحاسم المعلن الذي يختزل حجم الصراعات والمساومات.
ويتطلب التنفيذ الفعلي للبديل بعض الإجراءات كصياغة البديل بوصفه قرارا دالا على مضمونه بشكل جيد وواضح، وإختيار الوقت المناسب لإعلان البديل أو القرار، وتهيئة البيئة الداخلية المعنية بتنفيذه إلى جانب تهيئة الموارد والإمكانيات اللازمة وتهيئة البيئة الخارجية والرأي العام والمجتمع، لضمان الإلتزام وحسن التجاوب مع القرار وتنفيذه على أحسن صورة.
7. متابعة التنفيذ:
لابد من وضع نظام متكامل لمتابعة ومراجعة وتقويم مراحل التنفيذ، في ضوء التغذية العكسية التي يمكن توافرها عبر قنوات الإتصال الداخلية والخارجية، وتتمثل أهمية هذه المرحلة في إمكانية تحقيق بعض التعديلات الضرورية التي تستوجبها المتغيرات البيئية بما تشمله من ظروف إقتصادية وسياسية وإجتماعية، كما أن هذه المتابعة تكون بمثابة صمام الأمان للنظر في إيقاف مراحل التنفيذ والعودة لإختيار بديل آخر إذا لم يحقق هذا البديل القيم القصوى المتوقعة منه.
8. تقويم النتائج والآثار:
هذه المرحلة مكملة لسابقتها، فمحلل السياسات العامة عليه أن يباشر التقويم الموضوعي للنتائج المتحققة، وللآثار الفعلية الناجمة عن تنفيذ ذلك البديل المعتمد في السياسات العامة سواء بالنجاح أو الفشل، ومن ثم فإن التقويم هو عملية تكشف عن التأثيرات التي أنتجتها السياسة العامة المتخذة ومدى تحقيقها للأهداف المرجوة منها.
ووفقا لهذه المراحل نستخلص أن علم تحليل السياسات العامة هو علم وصفي وتحليلي في آن واحد، فهو يهتم بوصف وشرح طبيعة المشكلات المجتمعية من جهة، ويعمل من جهة أخرى مستعينا بكل الوسائل الحدسية والفكرية والعملية على تحديد البدائل العملية الممكنة لحلها وفق مقتضيات البيئة ومستوجبات الزمان، ولا بد من الإشارة إلى أن تحليل السياسة العامة لن يكون فعالا إلا بتوفير الشروط التالية:
- على محلل السياسيات العامة الإلتزام بالمعلومات المتوفرة لديه في وصفه للمواقف السياسية، فضلا عما يتمتع به من الإبداعية والقدرة على التصورات الإيجابية في ربط الأسباب بالمسببات والقدرة على التدقيق ونفاذ البصيرة والسرعة والحسم في إتخاذ القرارات.
- على محلل السياسات العامة إعتماد المعلومات والبيانات التي يتم تجميعها خلال التجربة العملية وإختبار النتائج بطرق فعلية.
- على محلل السياسيات إدراك التنوع والتغيير والتعقيد الذي تتميز بها البيئة المحيطة به وأن يتساءل بإستمرار حول الفرضيات والنماذج الموظفة في الدراسة لكافة المتغيرات التي تتضمنها البيئة الواقعية المحيطة بالسياسات العامة.
- على محلل السياسيات العامة أن يعطي أهمية كبيرة للقيم والخلفيات الفكرية والمعتقدية، التي تتماثل في سلوكيات الفاعلين السياسيين وفي سلوكيات الباحثين والمحللين السياسين.