مفهوم الحضارة:
لقد تظافرت جهود الإنسان منذ العصور القديمة في صياغة الحضارات الإنسانية عبر بقاع مختلفة من العالم لتترك بصمتها الخالدة في سجل التاريخ، فأين ظهرت هذه الحضارات؟ وما هي العوامل المساعدة على إبرازها؟ وما المقصود بالحضارة؟
1. تعريف الحضارة:
إذا أردنا أن نضع تعريفا علميا للحضارة يكون أفضل تعريف كما يلي: الحضارة هي مجموع الإنجازات الملموسة التي يقدمها مجتمع ما خلال عهد محدد في شتى مظاهر الحياة من سياسية وإجتماعية وعمرانية ودينية نتيجة لتفاعل أبناء هذا المجتمع مع البيئة التي يعيشون فيها.
2. شروط قيام الحضارة:
من التعريف السابق نستنتج أن شروط قيام الحضارة هي:
- الإنسان: فهو أقدر على التفاعل مع البيئة والتكيف معها إذا بلغ درجة معينة من النضج.
- البيئة الملائمة: الصحاري القاحلة لا يمكن أن تنشأ فيها حضارة.
- الحياة الإجتماعية: أي الحياة ضمن مجموعة معينة تتعدد فيها العلاقات وتتشابك بين أفرادها، فيكون هناك توزيع للحقوق والواجبات وهذا ما يمكن أن نعبر عنه بالتنظيم الإجتماعي.
3. دوافع نشوء الحضارات:
إختلف المؤرخون والفلاسفة في أن نشوء الحضارات هو الدافع إلى الإجتماع، أي الحياة ضمن الجماعة. فطبيعة الإنسان تجبره على التخلي عن عزلته، والإختلاط بأفراد ضمن جماعات بشرية تقل أو تكثر. ولنستعرض أهم الغرائز وأثرها في الدافع إلى الإجتماعات:
- غرائز حب البقاء: دفعته مثلا للإشتراك مع الآخرين في دفع خطر مشترك، يتمثل في فيضان نهر أو تعدي مجموعة.
- الحاجة إلى الطعام: دفعته إلى الإشتراك مع غيره في تشكيل جماعة للتعاون على صيد الوحوش التي تحتاج لأكثر من فرد واحد لصيدها.
- الحاجة إلى الشراب: دفعته للإشتراك مع جيرانه في سبيل تحويل ماء جدول أو حفر بئر أو إستثمار ينبوع إلى غير ذلك.
- غريزة الجنس: دفعته للتفتيش عن فرد آخر والتزوج معه.
- غريزة الأمومة والأبوة: دفعته لإنجاب أطفال، والإرتبتط بهم والبقاء معهم لحمايتهم وتربيتهم، مما يساعد على تشكيل أسرة التي هي أول صور الجماعات البشرية في عصور ما قبل التاريخ.
وعلى هذه الدوافع والغرائز والحاجات تتفاعل وتتركب في الدافع الأساسي الذي سميناه الدافع إلى الإجتماع، وقد أدرك الأقدمون قوة هذا الدافع وأثره حيث قال أرسطو: الإنسان حيوان مدني، ومدينته تدفعه إلى الإجتماع بالآخرين والتعاون معهم لكي يمارس إنسانيته ويستحق هذا الإسم، لأن الإنسان الوحيد ليس إنسانا كما يقول المثل اللاتيني.
4. أهم النظريات حول أطوار الحضارات:
تعدد المذاهب التي تحاول أن تعتني بخط نشوء الحضارات والأطوار التي تمر بها كل حضارة.
- نظرية فيقو: حاول العالم الإيطالي فيقو أن يحدد الصفات المشتركة العامة لنمو جميع الحضارات وتطورها، وقد إستخلص من ذلك أن كل حضارة تمر في تطورها التاريخي بثلاث عصور هم (عصر الأهلة، عصر البطولة، عصر الناس).
- نظرية شبينقلو: يرى الفيلسوف الألماني شبينقلو في كتابه إنحلال الغرب أن الحضارة تشبه أي كائن بيولوجي من حيث حياتها، لذا فهي تمر دوما بالأدوار التي يمر بها الكائن الحي فلكل طفولتها وشبابها ونضجها وشيخوختها.
- نظرية توينبي: أما الفيلسوف الأنجليزي في كتابه دراسة التاريخ، فيرى أن نشوء الحضارة مرتبط بالنظرية التي تتحدث عن التحدي أو الإستجابة، فهو يرى أن الطبيعة تتحدى الأنسان فإستجاب الإنسان لهذا التحدي بشكل موفق وجيد، فأنشئت الحضارة.
- نظرية إبن خلدون: تشبه نظريته إلى حد ما نظرية فيقو وشبينقلو مع، حيث يرى أن كل أمة تكون أو لا في حالة بداوة تم تدفعها الروح العصبية إلى التوسع فتنشأ ملكا والملك ينتهي إلى عمران بما يرافقه من علوم وإنتعاش، ثم يدور الزمن دورته فيذهب العمران لصالح أمة أخرى وهكذا...إلخ.
5. عوامل إندثار الحضارة:
كما تعددت الآراء في كيفية نشوء الحضارة تعددت أيضا في زوالها وإنحلالها، ويمكن إختيار رأيين من هذه الآراء:
- رأي أرنولد توينبي: يرى أن إنحلال الحضارة يكون بتأثير أحد العوامل التالية: (الإنشقاق في كيان المجتمع) حيث ينشق المجتمع على ذاته بتأثير عدم التوافق بين السلطة الحاكمة والشعب المحكوم أو نتيجة الصراع الداخلي؛ (تأثير البيروليتارية الداخلة) أي عندما تحتوي الحضارة جسما غريبا في داخلها يسبب بإستمرار خطرا عليها من الداخل مثلا طبقة العبيد في روما لعبت دورا كبيرا في الإطاحة بالدولة والحضارة الرومانيتين معا.
- رأي شبينقلو: تموت الحضارة حينما تكون قد حققت جميع ما بها من إمكانيات على هيئة شعوب ومذاهب دينية وفنون ولغات ودول وعلوم، ومن ثم تعود إلى حالة الروحية الأولية، وعندما تنحل الحضارة إما بخنقها تحت تأثير روح أقوى منها أو لأنها حققت صورتها النهائية، فيجف دمها ويتحجر كيانها؛ وقد تظل أزمنة طويلة في هذا الطور إلى أن يدركها الموت، وعلى هذا الأساس يكون هناك عاملان لزوال الحضارة في رأي هذا الفيلسوف وهو بنأثير روح أقوى من روحها أو لأنها حققت صورتها النهائية.